فصل: تفسير الآيات (18- 23):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التسهيل لعلوم التنزيل



.تفسير الآية رقم (15):

{سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)}
{سَيَقُولُ المخلفون} الآية: أخبر الله رسول الله صلى الله عليه وسلم أن المخلفين عن غزوة الحديبية يريدون الخروج معه إذا خرجوا إلى غزوة أخرى، وهي غزوة خيبر، فأمر الله بمنعهم من ذلك، وأن يقول لهم: {لَّن تَتَّبِعُونَا} {يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله} أي يريدون أن يبدلوا وعد الله لأهل الحديبية، وذلك أن الله وعدهم أن يعوضهم من غنيمة مكة غنيمة خيبر وفتحها، وأن يكون ذلك مختصاً بهم دون غيرهم، وأراد المخلفون أن يشاركوهم في ذلك، فهذا هو ما أرادوا من التبديل. وقيل: كلام الله قوله: {لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً} [التوبة: 83]. وهذا ضعيف؛ لأن هذه الآية نزلت بعد رجوع رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك بعد الحديبية بمدة {كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} يريد وعده باختصاصه أهل الحديبية بغنائم خيبر {فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا} معناه يعز عليكم أن نصيب معكم مالاً وغنيمة، وبل هنا للإضراب عن الكلام المتقدم وهو قوله: {لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ} فمعناها: ردٌ أن يكون الله حكم بأن لا يتبعوهم. وأما بل في قوله تعالى {بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً} فهي إضراب عن وصف المؤمنين بالحسد، وإثبات لوصف المخلفين بالجهل.

.تفسير الآية رقم (16):

{قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16)}
{سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} اختُلِف في هؤلاء القوم على أربعة أقوال الأول: أنهم هوازن ومن حارب النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة خيبر والثاني أنهم الروم إذ دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قتالهم في غزوة تبوك والثالث أنهم أهل الردة من بني حنيفة وغيرهم الذين قاتلهم أبو بكر الصديق والرابع أنهم الفرس ويتقوى الأول والثاني بأن ذلك ظهر في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقوّى المنذر بن سعيد القول الثالث بأن الله جعل حكمهم القتل أو الإسلام ولم يذكر الجزية، قال: وهذا لا يوجد إلا في أهل الردّة، قلت: وكذلك هو موجود في كفار العرب، إذ لا تؤخذ منهم الجزية فيقوِّي ذلك أنهم هوازن أو يسلمون عطف على تقاتلونهم وقال ابن عطية: هو مستأنف {وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ} يريد في غزوة الحديبية.

.تفسير الآية رقم (17):

{لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)}
{لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ} الآية معناها أن الله تعالى عذر الأعمى والأعرج والمريض في تركهم للجهاد؛ لسبب أعذارهم.

.تفسير الآيات (18- 23):

{لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23)}
{لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة} قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يدخل النار إن شاء الله أحد من أهل الشجرة الذين بايعوا تحتها» وفي الحديث أنهم كانوا ألفاً وأربعمائة، وقيل: ألفاً وخمسمائة. وسبب هذه البيعة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغ الحديبية، وهي موضع على نحو عشرة أميال من مكة، أرسل عثمان بن عفان رضي الله عنه رسولاً إلى أهل مكة، يخبرهم أنه إنما جاء ليعتمر، وأنه لا يريد حرباً. فلما وصل إليهم عثمان حبسه أقاربه كرامة له، فصرخ صارخ أن عثمان قد قتل. فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة على القتال وأن لا يفر أحد. وقيل: بايعوه على الموت ثم جاء عثمان بعد ذلك سالماً، وانعقد الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أهل مكة؛ على أن يرجع ذلك العام ويعتمر في العام القابل، والشجرة المذكورة كانت سمرة هنالك ثم ذهبت بعد سنين. فمر عمر بن الخطاب بالموضع في خلافته، فاختلف الصحابة في موضعها {فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ} يعني من صدق الإيمان وصدق العزم على ما بايعوا عليه، وقيل: من كراهة البيعة على الموت وهذا باطل. لأنه ذم للصحابة وقد ذكرنا السكينة {وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً} يعني: فتح خيبر وقيل: فتح مكة والأول أشهر، أي جعل الله ذلك ثواباً لهم على بيعة الرضوان، زيادة على ثواب الآخرة. وأما المغانم المذكورة أوّلاً فهي غنائم خيبر، وهي المعطوفة على الفتح القريب وأما المغانم الكثيرة التي وعدهم الله وهي المذكورة ثانياً فهي: كل ما يغنم المسلمون إلى يوم القيامة، والإشارة بقوله: {فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه} إلى خيبر. وقيل: إن المغانم التي وعدهم هي خيبر والإشارة بهذه إلى صلح الحديبية {وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ} أي كف أهل مكة عن قتالكم في الحديبية. وقيل: كف اليهود وغيرهم عن إضرار نسائكم وأولادكم بينما خرجتم إلى الحديبية {وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ} أي تكون هذه الفعلة وهي كف أيدي الناس عنكم آية للمؤمنين، يستدلون بها على النصر، واللام تتعلق بفعل محذوف تقديره: فعل الله ذلك لتكون آية {وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا} يعني فتح مكة، وقيل: فتح بلاد فارس والروم وقيل: مغانم هوازن في حنين، والمعنى لم تقدروا أنتم عليها، وقد أحاط الله بها بقدرته ووهبها لكم، وإعراب أخرى عطف على عجل لكم هذه أو مفعول بفعل مضمر تقديره: أعطاكم أخرى أو مبتدأ {وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ} يعني أهل مكة {سُنَّةَ الله} أي عادته والإشارة إلى يوم بدر، وقيل: الإشارة إلى نصر الأنبياء قديماً.

.تفسير الآية رقم (24):

{وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)}
{وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم} روي في سببها أن جماعة من فتيان قريش خرجوا إلى الحديبية، ليصيبوا من عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد في جماعة من المسلمين فهزموهم وأسروا منهم قوماً، وساقوهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأطلقهم، فكفُّ أيدي الكفار هو أن هزموا وأسروا. وكفُّ أيدي المؤمنين عن الكفار هو أطلاقهم من الأسر، وسلامتهم من القتل، وقوله: {مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ} يعني من بعدما أخذتموهم أُسارى.

.تفسير الآيات (25- 26):

{هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)}
{هُمُ الذين كَفَرُواْ} يعني أهل مكة {وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام} يعني أنهم منعونهم عن العمرة بالمسجد الحرام عام الحديبية {والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الهدي ما يهدى إلى البيت من الأنعام، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد ساق حينئذ مائة بدنة وقيل: سبعين ليهديها والمعكوف المحبوس، ومحله موضع نحره يعني: مكة والبيت، وإعراب الهدي عطف على الضمير المفعول في صدّوكم ومعكوفاً حال من الهدي، وأن يبلغ مفعول بالعكف فالمعنى: صدوكم عن المسجد الحرام، وصدوا الهدي عن أن يبلغ محله، والعكف المذكور يعني به منع المشركين للهدي عن بلوغ مكة، أو حبس المسلمين بالهدي بينما ينظرون في أمورهم.
{وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ} الآية تعليل لصرف الله المؤمنين عن استئصال أهل مكة بالقتل، وذلك أنه كان بمكة رجال مؤمنون ونساء مؤمنات يخفون إيمانهم، فلو سلط الله المسلمين على أهل مكة، ولقتلوا أولئك المؤمنين وهم لا يعرفونهم، ولكن كفَّهم رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهرهم، وجواب لولا محذوف تقديره: لولا رجال مؤمنون ونساء مؤمنات لسلطناكم عليهم {أَن تَطَئُوهُمْ} في موضع بدل من رجال ونساء، أو بدل من الضمير المفعول في لم تعلموهم والوطء هنا الإهلاك بالسيف وغيره {فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ} أي تصيبكم من قتلهم مشقة وكراهة، واختلف هل يعني الإثم في قتلهم أو الدية أو الكفارة أو الملامة، أو عيب الكفار لهم بأن يقولوا: قتلوا أهل دينهم، أو تألم نفوسهم من قتل المؤمنين، وهذا أظهر لأن قتل المؤمن الذي لا يعلم إيمانه وهو بين أهل الحرب لا إثم فيه ولا دية، ولا ملامة، ولا عيب، {لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ} يعني رحمة للمؤمنين الذين كانوا بين أظهر الكفار، بأن كف سيوف المسلمين عن الكفار من أجلهم أو رحمة لمن شاء من الكفار بأن يسلموا بعد ذلك، واللام تتعلق بمحذوف يدل على سياق الكلام تقديره: كان كف القتل عن أهل مكة ليدخل الله في رحمته من يشاء {لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ} معنى تزيلوا تميزوا عن الكفار، والضمير للمؤمنين المستوري الإيمان، أي لو انفصلوا عن الكفار لعذبنا الكفار فقوله: {لَعَذَّبْنَا} جواب لو الثانية، وجواب الأولى محذوف كما ذكرنا، ويحتمل أن يكون لعذبنا جواب لو الأولى: وكررت لو الثانية تأكيداً {إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية} يعني أنفه الكفر وهي منعهم للنبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين عن العمرة، ومنعهم من أن يكتب في كتاب الصلح بسم الله الرحمن الرحيم، ومنعهم من أن يكتب محمد رسول الله، وقولهم: لو نعلم أنك رسول الله لاتبعناك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، والعامل في إذ جعل محذوف تقديره: اذكر أو قوله: {لَعَذَّبْنَا} والسكينة هي سكون المسلمين ووقارهم حين جرى ذلك {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى} قال الجمهور وهي: لا إله إلا الله وقد رُوي ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: لا إله إلا الله محمد رسول الله وقيل: لا إله إلا الله والله أكبر، وهذه كلها متقاربة وقيل: هي بسم الله الرحمن الرحيم التي أبى الكفار أن تكتب {وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} أي كانوا كذلك في علم الله وسابق قضائه لهم، وقيل: أحق بها من اليهود والنصارى.

.تفسير الآيات (27- 28):

{لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)}
{لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في منامه عند خروجه إلى العمرة؛ أنه يطوف بالبيت هو وأصحابه بعضهم محلقون وبعضهم مقصرون ورُوي أنه أتاه ملك في النوم فقال له: {لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام} الآية: فأخبر الناس برؤياه: ذلك، فظنوا أن ذلك يكون في ذلك العام، فلما صده المشركون عن العمرة عام الحديبية قال المنافقون: أين الرؤيا، ووقع في نفوس المسلمين شيء من ذلك، فأنزل الله تعالى: {لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق} أي تلك الرؤيا صادقة، وسيخرج تأويلها بعد ذلك، فاطمأنت قلوب المؤمنين وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام المقبل، هو وأصحابه فدخلوا مكة واعتمروا، وأقاموا بمكة ثلاثة أيام، وظهر صدق رؤياه وتلك عُمرة القضية القضاء ثم فتح مكة بعد ذلك، ثم حج هو وأصحابه، وصدق في هذا الموضع يتعدى إلى مفعولين، وبالحق يتعلق بصدق، أو بالرؤيا على أن يكون حالاً منها {إِن شَآءَ الله} لما كان الاستثناء بمشيئة الله يقتضي الشك في الأمر، وذلك محال على الله، اختلف في هذا الاستثناء على خمسة أقوال: الأول أنه استثناء قاله الملك الذي رآه النبي صلى الله عليه وسلم في المنام، فحكى الله مقالته كما وقعت والثاني: أنه تأديب من الله لعباده ليقولوا إن شاء الله في كل أمر مستقبل، والثالث أنه استثناء بالنظر إلى كل إنسان على حدته؛ لأنه يمكن أن يتم له الأمر أو يموت، أو يمرض فلا يتم له، والرابع أن الاستثناء راجع إلى قوله آمنين لا لدخول المسجد، والخامس أن إن شاء الله بمعنى إذا شاء الله {مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ} الحلق والتقصيير من سنة الحج والعمرة، والحلق أفضل من التقصير، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «رحم الله المحلقين ثلاثاً ثم قال في المرة الأخيرة والمقصرين» {فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ} يريد ما قدره من ظهور الإسلام في تلك المدّة، فإنه لما انقعد الصلح، وارتفعت الحرب ورغب الناس في الإسلام، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة الحديبية في ألف وخمسمائة، وقيل ألف وأربعمائة وغزا غزوة الفتح بعدها بعامين ومعه عشرة آلاف {فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً} يعني فتح خيبر، وقيل بيعة الرضوان وقيل صلح الحديبية، وهذا هو الأصح «لأن عمر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: أفتح هو يا رسول الله؟ قال: نعم» وقيل: هو فتح مكة وهذا ضعيف، لأن معنى قوله: {مِن دُونِ ذَلِكَ} قبل دخول المسجد الحرام، وإنما كان فتح مكة بعد ذلك، فإن الحديبية كانت عام ستة من الهجرة وعمرة القضية عام سبعة، وفتح مكة عام ثمانية {لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ} ذكره في براءة [33] {وكفى بالله شَهِيداً} أي شاهداً بأن محمداً رسول الله، أو شاهداً بإظهار دينه.

.تفسير الآية رقم (29):

{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)}
{والذين مَعَهُ} يعني جميع أصحابه وقيل: من شهد معه الحديبية، وإعراب الذين معطوف على محمد رسول الله صفته وأشداء خبر عن الجميع، وقيل: الذين معه مبتدأ وأشداء خبره ورسول الله خبر محمد ورجح ابن عطية هذا. والأول عندي أرجح؛ لأن الوصف بالشدة والرحمة يشمل النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، واما على ما اختاره ابن عطية؛ فيكون الوصف بالشدة والرحمة مختصاً بالصحابة دون النبي صلى الله عليه وسلم، وما أحق النبي صلى الله عليه وسلم بالوصف بذلك لأن الله قال فيه: {بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: 128]، وقال {جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73، والتحريم: 9] فهذه هي الشدة على الكفار والرحمة بالمؤمنين {سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ} السيما العلامة وفيه ستة أقوال، الأول أنه الأثر الذي يحدث في جبهة المصلى من كثرة السجود والثاني أنه أثر التراب في الوجه الثالث أنه صفرة الوجه من السهر والعبادة، الرابع حسن الوجه لما ورد في الحديث وهذا الحديث غير صحيح، بل وقع فيه غلط من الراوي فرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو غير مروي عنه، الخامس أنه الخشوع، السادس: أن ذلك يكون في الآخرة يجعل الله لهم نوراً من أثر السجود كما يجعل غرة من أثر الوضوء وهذا بعيد لأن قوله: {تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً} وصف حالهم في الدنيا فكيف يكون سيماهم في وجوههم كذلك، والأول أظهر، وقد كان بوجه علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب وعلي بن عبد الله بن العباس أثر ظاهر من أثر السجود {ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة} أي وصفهم فيها وتم الكلام هنا، ثم ابتدأ قوله ومثلهم في الإنجيل، كزرع، وقيل: إن {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} عطف على {مَثَلُهُمْ فِي التوراة} ثم ابتدأ قوله: {كَزَرْعٍ} وتقديره هم كزرع، والأول أظهر، ليكون وصفهم في التوراة بما تقدم من الأوصاف الحسان، وتمثيلهم في الإنجيل بالزرع المذكور بعد ذلك، وعلى هذا يكون {وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل} بمعنى التشبيه والتمثيل. وعلى القول الآخر يكون المثل بمعنى الوصف كمثلهم في التوراة {كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ} هذا مثل ضربه الله للإسلام حيث بدأ ضعيفاً، ثم قوي وظهر. وقيل: الزرع مثل للنبي صلى الله عليه وسلم لأنه بعث وحده وكان الزرع حبة واحدة، ثم كثر المسلمون فهم كالشطء، وهو فراخ السنبلة التي تنبت حول الأصل، ويقال: بإسكان الطاء وفتحها بمد وبدون مد وهي لغات {فَآزَرَهُ} أي قوّاه وهو من الموازرة بمعنى المعاونة ويحتمل أن يكون الفاعل الزرع، والمفعول شطأه أو بالعكس؛ لأن كل واحد منهما يقوّي الآخر، وقيل: معناه ساواه طولاً فالفاعل على هذا الشطأ ووزن آزره فاعله وقيل أفعله، وقرئ بقصر الهمزة على وزن فعل {فاستغلظ} أي صار غليظاً {فاستوى على سُوقِهِ} جميع ساق أي قام الزرع على سوقه، وقيل: قوله: {كَزَرْعٍ} يعني النبي صلى الله عليه وسلم أخرج شطأه بأبي بكر فآزره بعمر فاستغلظ بعثمان فاستوى على سوقه بعليّ بن أبي طالب {لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار} تعليل لما دل عليه المثل المتقدم من قوّة المسلمين فهو يتعلق بفعل يدل عليه الكلام تقديره: جعلهم الله كذلك ليغيظ بهم الكفار، وقيل: يتعلق بوعد وهو بعيد {مِنْهُم} لبيان الجنس لا للتبعيض لأنه وعد عم جميعهم رضي الله عنهم.